ديفيد كليون
2019-05-27
الإمبراطورية الأمريكية.. الرجل المريض في القرن الحادي والعشرين
ديفيد كليون
نيسان 2019
Foreign Policy
ترجمة: مركز المعطيات والدراسات الاستراتيجية
فشل في المركز ترك الولايات المتحدة عرضة للبيع في المزاد لأعلى عرض
في سلسلته الكلاسيكية (المؤسسة Foundation) يتخيل إسحق أسيموف امبراطوريته المجريّة (Galactic Empire) يحكمها عالم مدينة ترانتو الذي حافظ على السلام والرخاء على مدى آلاف السنوات ولكنه بدأ يتأرجح وهو على حافة التدهور. الشخص الوحيد الذي يرى هذا بوضوح هو المؤرخ النفسي هاري سيلدون الذي قرر رياضياً أن الظروف الجوهرية للامبراطورية غير مستدامة وأنها سوف تتداعى مع مرور القرون.
يقول المريد وهو يستوعب حسابات سيلدون: "في الوقت الذي تصبح فيه ترانتور على نحو متزايد المركز الإداري للامبراطورية تغدو الجائزة أكبر. وحينما تصبح التركة الإمبريالية (التوسعيّة) لها أقل يقيناً والخلافات بين العائلات الكبيرة متعاظمة، تختفي المسؤوليات الاجتماعية."
نشر أسيموف هذه الكلمات في عام 1951 حينما كانت الولايات المتحدة متربعة على عرش القوة العالمية. لكنها يمكن أن تصف أيضاً واشنطن في عام 2019 كعاصمة إمبريالية تحولت نخبتها إلى جائزة عظيمة ليصار إلى الخلاف حولها تماماً كما حدث مع امبراطورية أسيموف المستقبلية، وحدث مع امبراطوريات أخرى في الماضي.
كيف أصبحت الطبقة الحاكمة المنحلة خطراً على الأمن القومي؛ و تهديداً وجودياً على الإمبراطورية الأمريكية؟ الجواب يكمن في السبعينيات حينما تم الكشف عن نقاط ضعف العقد الاجتماعي الأمريكي لمنتصف القرن والركود وأزمة الطاقة وحرب فيتنام الكارثية.
ورداً على ذلك، تبنت نخبة أمريكا السياسية الخصخصة، وإلغاء القيود، وتخفيض الضرائب الهائلة على الأغنياء، والاستعانة بمصادر خارجية بخصوص الوظائف الصناعية، وتمويل الاقتصاد. وقد وصلت عدم المساواة إلى أعلى المستويات على الإطلاق، وعانت أجزاء كثيرة من الولايات المتحدة من انخفاض ثابت في حين أن مجموعة من المدن الكبرى– بما فيها واشنطن– قد أصبحت فاحشة الثراء وتكاليفها مرتفعة جداً عبر تركيز الاحتكارات المالية والتقنية والإعلامية وجماعات الضغط التابعة لها. واليوم، يعرف الكثير من الأمريكيين هذه القصة إلا أن قلة فقط يفكرون فيما يعنيه مكانهم في العالم.
هناك طريقتان تقليديتان في فهم الدور الأمريكي العالمي. وفقاً للنظرية الأولى، فإن العالم ثنائي القطبية إبان الحرب الباردة قد مهد السبيل للعالم أحادي القطبة الذي كانت الهيمنة فيه الولايات المتحدة بدون منازع. ويرى بعض المراقبين هذا على أنه أمر جيد وفي صالح الإمبراطورية الأمريكية في حين يرى آخرون أنه أمر سيء ويهدف إلى محاربة الإمبراطورية الأمريكية، إلا أن كلا الجانبين متفقان على أن الإمبراطورية الأمريكية هي السمة المميزة لعصرنا.
أما النظرية الثانية فتختلف عن الأولى بدرجات وتشدد على أن العالم في فترة ما بعد الحرب الباردة إنما هو عالم متعدد الأقطاب، وتظهر فيه الولايات المتحدة بوضوح كقوة مهيمنة إلى جانب خصوم محتملين آخرين عديدين، بما فيها دول كالصين التي يمكن أن تتجاوز الولايات المتحدة في مرحلة تالية.
ولكن ماذا إن لم تكن أي من النظريتين صحيحة؟ الفهم القريب الشامل لكون الولايات المتحدة لاعباً عالمياً موحداً ونافذاً هو فهم خاطئ ويحتاج إلى مراجعة. فالولايات المتحدة هي أقل من قوة عظمى تمارس إرادتها. وأكثر من ذلك، فهي سوق مفتوحة في الهواء الطلق للفساد، حيث يمكن للقوى الخارجية أن تشتري النفوذ وتشكّل المخرجات السياسية وتقوم بفبركات ضد بعضها البعض خدمة لأجنداتها المختلفة.
هذه قصة تاريخية معروفة. بالرغم من أن المؤسسة (Foundation) قد استلهمت عمل إيدوارد غيبون "أفول وسقوط الامبراطورية الرومانية" إلا أننا نجد أن التاريخ يزخر بالأمثلة عن امبراطورية كانت تبدو قوية لكن تحكمها نخبة منقسمة ضعيفة وتخضع لقوى خارجية.
ولم يعد الكومنويلث الليتواني البولندي، وهو جمهورية أرستقراطية مترامية الأطراف امتدت على مساحات أوروبة الشرقية بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر، موجوداً على الخارطة بسبب غزو جيرانه الذين وجدوا أنهم يستطيعون رشوة نوابه لتعطيل اتخاذ كل القرارات السياسية.
أما الامبراطورية العثمانية التي نشأت في أواسط القرن التاسع عشر فكان يطلق عليها بشكل غير معروف (رجل أوروبة المريض) في الوقت الذي أضعفت فيه القوى الأوروبية الغربية أراضيها وشجعت على الحركات الانفصالية ضد الامبراطورية العثمانية.
في نفس الفترة كانت الصين في يد سلالة كينغ (Qing) وقد أجبرت على التنازل عن العديد من أراضيها لصالح الامبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، وكلها، بالتالي، كانت ستجد نفسها خلال قرن من المزمن منتهية.
قد تبدو المقارنة سخيفة بين الولايات المتحدة في عام 2019 والقوى الامبريالية المنهارة والمتداعية في الماضي. ولكن لنفكر في حالة العاصمة الآن. فالرئيس دونالد ترامب، كما يعرف كل شخص تقريباً على الأقل ويقر بذلك في الخفاء، هو شخص لا يملك كفاءة لأداء معظم المسؤوليات الأساسية المناطة به عدا عن كونه أضحوكة عالمية.
لقد اشترت الإدارة الحكومات الأجنبية عبر شبكة دولية من الفنادق والمنتجعات، بما فيها تلك الموجودة بين البيت الأبيض ومبنى الكابيتول (الكونغرس) حيث أستأجر أحد الأفراد التابعين لجماعات ضغط ممولة سعودياً 500 غرفة في الشهر الذي تلا انتخابات عام 2016.
ليس لحزبه السياسي الذي لا يزال يسيطر على مجلس الشيوخ ويسيطر بشكل متزايد على القضاء أي اهتمام بإيقافه ومحاسبته على أي من هذه الأمور. وبالطبع يوجد أمر صغير يتعلق بالتدخل الروسي بالانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2016، وفقاً للمعلومات القليلة المعروفة الواردة في تقرير المستشار الخاص روبرت ميلر، حيث أن ترامب والجمهوريين كانوا على الأقل مستفيدين سلبيين ومستعدين لتقديم الجهود من قبل قوة أجنبية للتأثير على نتيجة الانتخابات.
لكن ترامب هو مجرد عَرَض، أقوى مثال كرتوني صارخ عن كيف أصبح نفوذ المال الخارجي في واشنطن أمراً عادياً بالنسبة للجيل السابق. ومن التأثير المنتشر لدولة الإمارات العربية وممالك الخليج الأخرى على مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام وصولاً إلى التزلف، افتراضياً، للحكومة الأمريكية أمام لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية–الأمريكية مروراً بعلاقات الصين الدافئة مع غرفة التجارة ورؤوساء بعض أكثر الشركات الأمريكية نفوذاً وتحويل الأموال الأجنبية عبر الصناعات العقارية في أكبر وأغنى المدن في البلاد، نجد أن حكومة الولايات المتحدة أصبحت معروضة للبيع.
لا شك أن المال الأجنبي، لكن ليس وحده، هو الذي يحكم واشنطن.
فلقد مزقت المصالح المشتركة القوية بشكل كامل تقريباً مسألة المساءلة الديموقراطية في العاصمة بما في ذلك الصناعات الرئيسية الموجودة في الولايات المتحدة كالتمويل والتأمين والطاقة والتكنولوجيا.
إذن، مرة أخرى، هل لا تزال هناك صناعات موجودة على أراضي الولايات المتحدة؟ العديد من الشركات الكبرى هي شركات متعددة الجنسيات ولها مقرات في المدن الكبرى حول العالم وكذلك لديها مدراء تنفيذيون يملكون ثروات طائلة، وهو ما يعني أنهم يتشاركون الكثير اجتماعياً مع نظرائهم الدوليين أكثر من معظم الأمريكيين.
الإلغاء الكامل لحملة التمويل وشرعنة الفساد التي تلت في واشنطن، على نطاق غير مسبوق ولم يسمع به في الدول المتقدمة، كان هو النتيجة في عاصمة يصبح فيها التمييز بين المصالح النقدية الأجنبية والمحلية أكثر صعوبة. بعبارة أخرى، الحكومة الأمريكية غير موجودة لخدمة مصالح الأمريكيين إما عبر سياساتها الخارجية أو سياساتها الداخلية، وإنما هي موجودة لإدامة مصالح الأوليغارك (الأقليّة) المعولمة (القلة المالية الحاكمة).
هنالك جدل مضاد واضح حول كل هذا الأمر، إذ لا تزال الولايات المتحدة تنفق على الدفاع أكثر من سبعة دول مجتمعة ولا تزال تشغّل شبكة من مئات القواعد العسكرية المنتشرة في نصف دول الكرة الأرضية تقريباً. لا توجد أية دولة بعيدة تنافس الولايات المتحدة في قدرتها على إسقاط القوة العسكرية، ولا توجد أي دولة أخرى بثرائها أو تصك عملة احتياطية أو تستخدم قوة ناعمة بشدة مثلها.
وفي نفس الوقت، فإن التركيز على الامبراطورية الأمريكية بكليتها يمكن أن يسبب تشويشاً في السببية. لنفكر مثلاً في خلع الرئيس المصري في فترة ما بعد الربيع العربي، محمد مرسي، في انقلاب عام 2013. ففي مذكرات بين رودس المستشار السابق في البيت الأبيض نجد أنه يصف إدارة الرئيس باراك أوباما على أنها القوة الدافعة وراء الانقلاب لكن كمتلق سلبي لضغط مستمر من قبل الحلفاء السعوديين والإماراتيين الذين أطلقوا حملة معلومات ضد السفير الأمريكي في الوقت الذي كان التخطيط للانقلاب المصري يجري.
كتب رودس أنه تلقى شخصياً من يوسف العتيبة صورة عبر البريد الإلكتروني تصور السفير الأمريكية على أنه متواطؤ مع جماعة الإخوان المسلمين، ويوسف العتيبة هو السفير الإماراتي في واشنطن والذي يتميز بصلابة شديدة ويمتلك علاقات واسعة. وفي حين أن رودس وأباما أيضاً واجها ضغوطاً من داخل مؤسسة واشنطن إلا أنهما وجداً أن أجندتهما للشرق الأوسط يختطفها وعلى نحو متكرر حلفاء أجانب – نفس الحكومات التي أيضاً مارست الضغوط ولاقت درجات مختلفة من النجاح، بخصوص العمليات العسكرية الأمريكية في سورية واليمن. وبكل الأحوال فإن القوة الأمريكية مهما عظمت لا تعني شيئاً إن لم يتم استخدامها لغايات تخدم أغلى المزايدين (bidders).
لذلك، ماذا إن كانت الامبراطورية الأمريكية في طريقها إلى التفكك؟ يقول الكثيرون إن هيمنة الولايات المتحدة كانت كارثة نشرت الحرب والتفجيرات في أرجاء العالم وسممت المناخ على نحو لا يمكن إصلاحه. وهذا صحيح: كما لاحظت أسيموف فإن الامبراطوريات تميل إلى السقوط لأنها تطاولت كثيراً وأفسدت نخبها وأنتجت الشروط المسبقة لزوالها.
لكن ما نراه الآن ليس انسحاباً معقولاً ومسؤولاً من الامبراطوية لكي يتم الاستثمار في الحاجات الملحة في البلاد وليس تمرداً على الامبراطورية من قبل أشقياء العالم. ما نراه هو انسحاب مستطيل يمكن أن يتعرف عليه أي طالب في روما أو القسطنطينية.
أمريكا هي الرجل المريض في القرن الحادي والعشرين وأي شخص شاهد رئيسها يتعثر أثناء تجمع لقادة العالم المرتبكين المثيرين للشفقة سيعرف ذلك.